وقفت أنتظر زوجتي ريثما تنتهي من تقديم طلب للعمل في منظمة وزارة الصحة بينما تسمرت أمامي عجوز ملحفة بالسواد حزناً وشكوى من قسوة الحياة, وطلبت مني أن أشفق عليها ببعض المال بعد أن قصت علي قصة عذابها الطويل, لم أدر مدى تصديقي لقصتها لكن ما أدريه أنني وبدافع ما رثيت لحالها تعطفت عليها ببعض النقود الحديدية التي وجدتها في جيبي, ثم بدأت هي تدعو لي بالتوفيق, شعرت من خلال دعواتها بفرج مؤقت وبنور ينبعث من إحدى مظلومات الكون.. نعم فما ذنبها إن ولدت فقيرة وعاشت فقيرة؟ أفلا يمكنها أن تغير ما كان مسيراً منذ البدء؟ رمقتها تتجه إلى إحدى زوايا الشارع لتمد بساطا ((مزقاً)) امتص غبار الهواء والطريق فأصبح أسود قاتماً وجلست مستندة إلى حائط أحد الأبنية, نظرت إلى ساعتي مستعجلاً مرور الوقت إلا أن عقرب الثواني كان لا يزال يتحرك ببطء وقد طال انتظاري لزوجتي لكن ما شغلني عن ساعتي هو صوت المتوسلة العجوز وقد ارتفعت حدته لدى مرور أحد الأشخاص ذوي الهيئة المترفة.. فبعض الناس لا يمكن أن تخطئ في معرفة إلى أي طبقة ينتمون, رأيته يقف أمامها ويقول: ((هل لديك ورقة مالية من فئة الخمسين كي أعطيك مئة ليرة؟)). فأطرقت رأسها بالإيجاب وأخرجت من حقيبة يدها الخمسين ليرة مقابل المئة ثم دعت له بحظ موفق سعيد لكن مالفت انتباهي هو حقيبة يدها , تأملتها ملياً فلم يخف علي أمرها كانت مصنوعة من الجلد الأصلي الذي طالما طالبتني زوجتي به ولم أستطع تأمينها لها لأن ذلك يكلفني نصف راتبي.
تابعتها وهي تخرج من حقيبتها طعاماً وعلبة عصير فاستغربت لأمرها ولأمر حقيبتها وطعامها لكنني بعد حوالي نصف ساعة أدركت السبب.. نعم وبعد معرفتي السبب تساءلت عن مدى غبائي فضحكت من شدة بساطتي في فهم الأمور. كنت أعتبرها مجرد متسولة حتى أنني أشفقت عليها ببعض المال لكن ما رأته عيني وما حسبته جعلني أرثي لخيبتي وبساطة نيتي, ففي ظرف نصف الساعة تلك رأيت عدداً من الأشخاص يجود كل منهم عليها ببعض النقود كما رأيتها تطلب الشفقة متحسرة لحالها لدى مرور ذوي الجاه والترف أو متوسطي الحال أما لدى مرور شخص أظلمت الدنيا في وجهه فبدا كئيباً حزيناً لواقع مؤلم فقير فإنها تكاد لا تتكلم بل تنظر إليه باشمئزاز نعم, عرفت سر هذا كله عندما أحصيت عدد الأفراد الذين تكرموا عليها خلال النصف ساعة وضربتها بعدد ساعات اليوم ثم بعدد أيام الشهر إلى أن وصلت إلى رقم يتراوح بين ضعفي إلى ثلاثة أضعاف راتبي فانتاب قلبي جرح عميق وحزنت لحالي لا لحالها وتأسفت لوضعي لا لوضعها, هممت بالذهاب إليها كي أعيد ما أخذته مني تلك العجوز الماكرة فقد تبين لي أنها أغنى مني بكثير, خطوت خطوتين وأنا متحمس كي أجتر حنانها فتشفق على حالي وتعلمني سر صنعتها لكنني لمحت في تلك الأثناء زوجتي مقبلة نحوي وقد ارتسم على وجهها حزن عميق وعندما سألتها عن سبب مخاوفها أجابتني بتفاؤل يشوبه قلق عظيم: ((لم يسعفني الوقت بتقديم أوراقي كلها فهناك الكثير ممن أتى قبلي ولديه مؤهلات أفضل يستطيع الفوز بالوظيفة, أنا جد غير متفائلة))
والتفتت نحوي بيأس فضممتها إلي بحنان لأسلي عنها ثم نظرت إلى المتسولة التي كانت مشغولة بأحد المارة وقلت لزوجتي بينما تأرجحت عيناي بينها وبين المتسولة: ((إلى الغد إذاً)).