الى كل من نسيه الزمن, ورمته الأقدار اليًّ بين جدراني المهترئة الرطبة
الى كل من صار ظلا ذاويا بين الظلال المتلاشية في الظلام
الى كل مسن عاجز بائس ينتظر الرحيل بصمت
***
انه الصباح...
أدركت الصباح من صوت العصافير التي تصدح على شجرة السنديان المسنة الضاربة في أعماق الأرض المعشوشبة المشذبة ، من صرير عجلات عربة الحليب التي تمر بالشارع الصامت، من ريح الشمال المحملة بندى الليل المنكسر، ومن صراخ مسن بالدور العلوي، كعادته يشتم ويسب ثم يغرق في صمته الكئيب الطويل.
انه الصباح بكل تناقضاته يطلع علي بابتسامة استحياء مخضبة بحمرة خفيفة وغبش أزرق تتبدد قتامته مع مرور الوقت. وأنا، أراقب بصمت، أتمعن بلا مشاعر، وأترقب البوابة الحديدية كي تفتح على نزيل جديد، أتودد إليه، أدنو من قلبه كي يفتحه، فأسمع وأنصت، ثم أتركه، وفي جعبتي مآسي بحجم الجبال ، تتكدس بصدور واهنة، ذابلة، هشة، محتقنة بغصص تحيل النفس مستعصيا، مؤلما، وقاتلا أحيانا.
لكني، أظل كما أنا، حتى بعدما أسمع القلوب المنكسرة، أظل كما أنا. هكذا وُجدت، بقلب جامد، بجسد من غير روح، كتلة صماء، تتقن فن السمع والصمت في آن. ولأني أسمع وأصمت، فـأنا خير ونيس، وخير أمين للأسرار، لذلك، وجدت نفسي قريبا من الكل، لكني أبعد ما يكون عنهم. لم أعترض يوما ولم أتساءل حتى لما؟..لا أجد بنفسي حتى القدرة على تغيير شيء. كل ما حولي مشتعل ينبض بالحياة رغم الألم و النسيان، إلا أنا، قطعة خشب باردة تطالع العالم بحسرة و غيرة.
متى ألفيت نفسي أغار من شجرة السنديان، من سكانها الصغار، من صرير العجلات، من ندى الليل الآتي مع ريح الشمال؟..، حتى من صراخ المسن المجنون أغار، وأتحسر، وأترقب بلوعة أفول القلوب الملتاعة الواحدة بعد الأخرى، ورحيل وجوه ذاوية بصمت يلفها المجهول من كل جهة. رحيل صامت، بلا وداع أو عزاء، بلا تأبين، بلا كلمة تقدير، بلا نظرة وداع شاردة، بلا أي اهتمام يذكر، تختفي الوجوه المتيبسة ، بالألم، بالسنون، بالنسيان، من هذا العالم البائس، من هاته الحياة الناقمة الجاحدة الأقرب إلى عاهرة بألف وجه وألف ابتسامة. أرى كل شيء وأغرق في صمتي الأبدي وخيال سؤال يدق مساميره في جذعي الميت " هل سأذوي كما هذه الوجوه المجهولة في صمت مذل؟"
لكن السؤال مجرد خيال، ومساميره وان دقت أنصالها في جذعي، فهو ميت منذ الأزل، والأنصال وان جرحت وغاصت في الأعماق ما حركت بي شيئا. ميت أنا، وضرب الميت مضيعة للوقت والجهد.
سأنتظر رحيل الصباح، وأتطلع للسماء ذات كل أصيل، متأملا الزرقة الذاوية بالحمرة المتقدة، وأرقب وداع الشمس بكل أبهة و عظمة، فأنظر للأسفل ، بين الزوايا المظلمة، بين الدهاليز المقفرة، بين الغرف الصامتة الباردة، أشباح أحياء متهالكة تجر صمتها وحزنها سلاسل لا تنتهي، وتجتر وحدتها رماحا تدك أوصالها بالألم، والموت، يصير الخلاص والمنى.
تختفي الشمس بين الجبال البعيدة، تغرق العصافير في صمت تحت أغصان السنديان العجوز، يسكن الشارع من اللغط ويغط المسن بالدور العلوي في نوم طويل لن يوقظه من أحد. وحينذاك، يأتي الحارس الليلي المسن، يخرج من كوخه المتهالك صوب مدخلي الحديدي، كي يوصد بوابتي الصدئة، مقفلا كل منافذي. فأتبدى، من بعيد، بحيطاني العالية الغارقة في العتمة مثل سجن كبير، أو مثل قلعة سوداء تحيط بها مقابر شتى.
في الليل، والسماء تلتمع بشدة كالأحداق الباكية، تهب نسائم، من الجنوب. نسائم دافئة، رطبة، مشبعة بالحياة، تتغلغل بين جدراني الباردة، تداعب الصدور المحتقنة، تنتشلها وسط الظلمة، تهفو بها بعيدا إلى عوالم سرية مغرية مثيرة، تعيد ذكريات حلوة، تنسج أحلاما براقة وتشعل ولو للحظة أملا خابيا كافيا للبقاء المرير