نزول القرآن على قسمين : قسم نزل ابتداء ، و قسم نزل عقب واقعة أو سؤال
ولعلم أسباب النزول فوائد ، منها : معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم ،وتخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب ، وقد يقوم الدليل على تخصيص حكم اللفظ العام ، والوقوف على المعنى وإزالة الإشكال ، كما لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها . فبيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن .
من ذلك ، من قال بإباحة شرب الخمر ، واحتج بقوله تعالى : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طعموا ... )(المائدة/93) ولو علموا سبب نزولها لم يقولوا ذلك ، وهو أن ناساً قالوا لما حرمت الخمر : كيف بمن قُتلوا في سبيل الله وماتوا وكانوا يشربون الخمر وهي رجس ؟ فنزلت .
ومن ذلك قوله تعالى : ( فأينما تولوا فثم وجه الله )(البقرة/115) فإنا لو تركنا ومدلول اللفظ لاقتضى أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة في السفر ولا في الحضر وهو خلاف الإجماع ، فلما عرف سبب نزولها علم أنها في نافلة السفر ، أو فيمن صلَّى بالاجتهاد وتبين له الخطأ .
وقد اختلف علماء أصول الفقه : هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب ؟ والأصح أن العبرة بعموم اللفظ ، وقد نزلت آيات في أسباب خاصة ، وأحكامها تتعدى غير أسبابها ، كنزول آية الظهار في سلمة بن صخر ، وآية اللعان في شأن هلال بن أمية ، وحد القذف في رماة عائشة ، والحكم يتعدى غيرهم في كل زمان . فقد كان السبب خاصاً ، إلا أن الوعيد عام يتناول كل من باشر ذلك القبيح ، ويكون جارياً مجرى التعريض . قد سئل ابن عباس عن قوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ... )(المائدة/38 - 93) الآية خاصّ أم عام ؟ قال : بل عام .
لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرّواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب وبحثوا عن علمها . ومعرفة أسباب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن متعلقة بالقضايا ، وربما لم يجزم بعضهم فقال : أحسب هذه الآية نزلت في كذا ، وإذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فإنه حديث مسند .
ومما ورد في الإخبار عن الوقائع الماضية لا يدخل في أسباب النزول كذكر قصة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك .
كثيراً ما يذكر المفسرون لنزول الآية أسباباً متعددة ، وطريق الاعتماد في ذلك أن ينظر إلى العبارة الواقعة ، فإن عبّر أحدهم بقوله : " نزلت في كذا " والآخر نزلت في كذا وذكر أمراً آخر ؛ فإن هذا يراد به التفسير لا ذكر سبب النزول ،ولا منافاة بينهما . أما إن عبّر أحدهم بقوله : " نزلت في كذا " وصرّح الآخر بذكر سبب خلافه . فالمعتمد التصريح ، والآخر استنباط ، مثاله : ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال : أنزلت ( نساؤكم حرث لكم ... )(البقرة/223) الآية في إتيان النساء في أدبارهن ، وقد جاء عن جابر التصريح بذكر سبب آخر ، فالمعتمد حديث جابر لأنه نَقْلٌ ، وقول ابن عمر استنباط منه ، وإن ذكر أحدهم سبباً وغيره سبباً آخر ، فالمعتمد ما كان إسناده صحيحاً حال صحة أحدهما وضعف الآخر . فإن استوى الإسنادان في الصحة ، يرجح ما كان راويه حاضر القصة ، أو نحو ذلك من الترجيحات ، فإن لم يمكن الترجيح حمل تعدد الأسباب على تعدد الحوادث وتكررها .
يدخل تحت باب ( أسباب النزول ) موافقات عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد جاء في الحديث : [ إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه ](أخرجه الترمذي عن ابن عمر) .
وعن أنس قال : قال عمر : وافقت ربي في ثلاث : قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )(البقرة/125) وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البرُّ والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب ، واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهنَّ ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن )(التحريم /5) فنزلت كذلك .
ويقرب من هذا ما ورد في القرآن على لسان غير الله كالنبي صلى الله عليه وسلم وجبريل والملائكة ، وهو غير مصرح بإضافته إليهم ولا محكيٌّ بالقول عنهم ، كقوله تعالى : ( قد جاءكم بصائر من ربكم .... )(الأنعام/104) فإن هذا وارد على لسانه صلى الله عليه وسلم بدليل قوله في آخرها : ( وما أنا عليكم بحفيظ ) .