{ الۤـمۤ * ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }
قوله تعالى: {الۤمۤ * ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ}. [1-2].
أخبرنا أبو عثمان [الثقفي] الزَّعفراني، أخبرنا أبو عمرو بن مطر، أخبرنا جعفر بن محمد بن الليث، حدَّثنا أبو حذيفة، حدَّثنا شِبْل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:
أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين، وآيتان بعدها نزلتا في الكافرين، وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين.
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ}. [6].
قال الضحاك: نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته. وقال الكلبي: يعني اليهود.
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }
قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا}. [14].
أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، أخبرنا شيبة بن محمد، حدَّثنا علي بن محمد بن قرة، حدَّثنا أحمد بن محمد بن نصر، حدَّثنا يوسف بن بلال، حدَّثنا محمد بن مروان عن الكلبي، عن صالح، عن ابن عباس:
نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وذلك: أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن أبي: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فذهب فأخذ بيد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال: مرحباً بالصِّديق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله. ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال: مرحباً بسيد بني عَدِيّ بن كعب، الفاروق القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله. ثم أخذ بيد علي كرم الله وجهه فقال: مرحباً بابن عم رسول الله وخَتَنِه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله. ثم افترقوا. فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت فأثْنَوْا عليه خيراً. فرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبروه بذلك. فأنزل الله هذه الآية.
{ يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
قوله: {يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ}. [21].
أخبرنا سعيد بن محمد بن أحمد الزاهد، أخبرنا أبو علي بن أحمد الفقيه، أخبرنا أبو تراب القُهُسْتَاني، حدَّثنا عبد الرحمن بن بشر، حدَّثنا رَوْح، حدَّثنا شعبة، عن سفيان الثّوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال:
كلّ شيء نزل فيه يا أيها الناس، فهو مكي، ويا أيها الذين آمنوا، فهو مدني.
يعني أن يا أيها الناس خطاب أهل مكة، ويا أيها الذين آمنوا خطاب أهل المدينة. فقوله: {يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } خطاب لمشركي مكة إلى قوله: {وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ} وهذه الآية نازلة في المؤمنين، وذلك: أن الله تعالى لمَّا ذكر جزاء الكافرين بقوله: {ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ} ذكر جزاء المرمنين.
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ }
قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً}. [26].
قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لما ضرب الله تعالى هذين المثلين للمنافقين، يعني قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً} وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ} قالوا: الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال: فأنزل الله هذه الآية.
وقال الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين [به] المثل - ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله هذه الآية.
أخبرنا أحمد بن عبد الله بن إسحاق الحافظ في كتابه، أخبرنا سليمان بن أيوب الطبراني، حدَّثنا بكر بن سهل، حدَّثنا عبد العزيز بن سعيد، عن موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} قال:
وذلك أن الله ذكر آلهة المشركين فقال {وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً} وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، فقالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أيّ شيء يصنع بهذا؟ فأنزل الله هذه الآية.
{ أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}. [44].
قال ابن عباس في رواية الكلبي، عن أبي صالح بالإسناد الذي ذكر:
نزلت في يهود [أهل] المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره ولذوي قرابته ولمن بينهم وبينه رضاع من المسلمين: اثبت على الدين الذي أنت عليه، وما يأمرك به هذا الرجل - يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم - فإنَّ أمره حق. فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه.
{وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ}
قوله تعالى: {وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ}. [45].
عند أكثر أهل العلم: أن هذه الآية خطاب لأهل الكتاب، وهو مع ذلك أدب لجميع العباد. وقال بعضهم: رجع بهذا الخطاب إلى خطاب المسلمين. والقول الأول أظهر.
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ...} الآية. [62].
أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد الحافظ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر الحافظ، حدَّثنا أبو يحيى الرازي، حدَّثنا سهل بن عثمان العسكري، حدَّثنا يحيى بن أبي زائدة قال: قال ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: لما قص سَلْمَان على النبي صلى الله عليه وسلم، قصة أصحاب الدير، قال: هم في النار. قال سلمان: فأظلمت عليّ الأرض، فنزلت: {إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ} إلى قوله: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} قال: فكأنما كشِف عني جبل.
أخبرني محمد بن عبد العزيز المَرْوَزِيّ، أخبرنا محمد بن الحسين الحدّادِي، أخبرنا أبو يزيد، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عمرو، عن أسباط، عن السُّدِّيّ: {إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ..} الآية، قال: نزلت في أصحاب سلمان الفارسي لما قدم سلمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل يخبر عن عبادتهم واجتهادهم، وقال: يا رسول الله. كانوا يصلون ويصومون، ويؤمنون بك، ويشهدون أنك تبعث نبيِّاً. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا سلمان هم من أهل النار، فأنزل الله: {إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ} وتلا إلى قوله: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر، أخبرنا محمد بن عبد الله بن زكرياء، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الدّغولي، أخبرنا أبو بكر بن أبي خيثمة، حدثنا عمرو بن حماد، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
{إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ...} الآية، نزلت هذه الآية في سلمان الفارسي.
وكان من أهل جُنْدَيْسَابُور من أشرافهم، وما بعد هذه الآية نازلة في اليهود.
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} الآية. [75].
قال ابن عباس ومقاتل: نزلت في السبعين الذي اختارهم موسى ليذهبوا معه إلى الله تعالى، فلما ذهبوا معه [إلى الميقات] وسمعوا كلام الله تعالى وهو يأمره وينهاه رجعوا إلى قومهم. فأما الصادقون فأَدَّوْا كما سمعوا. وقالت طائفة منهم: سمعنا الله في آخر كلامه يقول: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شتم فلا تفعلوا ولا بأس.
وعند أكثر المفسرين: نزلت الآية في الذين غيروا الرجم وصفة محمد صلى الله عليه وسلم.
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ }
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ} الآية. [79].
نزلت في الذين غيروا صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وبدلوا نعته.
قال الكلبي بالإسناد الذي ذكرنا: إنهم غيّروا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كتابهم، وجعلوه آدَمَ سَبْطاً طويلاً، وكان رَبْعَةً أسمر صلى الله عليه وسلم. وقالوا لأصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة النبي الذي يُبعث في آخر الزمان، ليس يشبه نعت هذا. وكانت للأحبار والعلماء مَأكَلة من سائر اليهود، فخافوا أن تذهب مأكلتهم إن بَيَّنُوا الصفةَ؛ فمِنْ ثَمَّ غيّروا.
{ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً}. [80].
أخبرنا إسماعيل بن أبي القاسم الصوفي، أخبرنا أبو الحسين [محمد بن أحمد بن حامد] العطار، أخبرنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن سعد الزهري؛ حدَّثنا أبي وعمّي قالا: حدَّثنا أبي عن ابن إسحاق، حدَّثنا محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، المدينة، واليهود تقول: إنما هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذَّب الناس في النار لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوماً واحداً في النار، من أيام الآخرة، وإنما هي سبعة أيام ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً}.
[أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد التَّمِيمي، أخبرنا عبد الله بن محمد بن حيّان، حدَّثنا محمد بن عبد الرحمن الرازيّ، حدَّثنا سهل بن عثمان، حدَّثنا مروان بن معاوية حدَّثنا جُويبر، عن الضحاك عن ابن عباس: في قوله: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} قال]:
وجد أهل الكتاب ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين [عاماً] فقالوا: لن نعذب في النار إلا ما وجدنا في التوراة. فإذا كان يوم القيامة اقتحموا في النار. فساروا في العذاب حتى انتهوا إلى سقر، وفيها شجرة الزقوم، إلى آخر يوم من الأيام المعدودة، قال: فقال لهم خزنة [أهل] النار: يا أعداء الله، زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلاَّ أياماً معدودة، فقد انقضى العدد، وبقي الأبد.
{ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ}. [89].
قال ابن عباس: كان يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء، وقالت: اللهم إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلاَّ نصرتنا عليهم. قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزَموا غطفان. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي بك يا محمد، إلى قوله: {فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ}.
وقال السدي: كانت العرب تمر بيهود فَيَلْقَوْن منهم أذى، وكانت اليهود تجد نعت محمد في التوراة [ويسالونك الله] أن يبعثه، فيقاتلون معه العرب. فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم، كفروا به حسداً، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل؟!.
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} الآية. [97].
أخبرنا سعيد بن محمد بن أحمد الزاهد، أخبرنا الحسن بن أحمد الشيباني، أخبرنا المؤمل بن الحسن [بن عيسى]، حدَّثنا محمد بن إسماعيل بن سالم، حدَّثنا أبو نعيم، حدَّثنا عبد الله بن الوليد، عن بُكَيْر، عن ابن شهاب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:
أقبلت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم نسألك عن أشياء فإن أجبتنا فيها اتبعناك، أخبرنا من الذي يأتيك من الملائكة؟ فإنه ليس [من] نبي إلاَّ يأتيه ملك من عند ربه عزّ وجلّ بالرسالة وبالوحي، فمن صاحبك؟ قال: جبريل: قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال، ذاك عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر والرحمة تابعناك. فأنزل الله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ} إلى قوله: {فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ}.
{ مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ }
قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ} الآية. [98].
أخبرنا أبو بكر الأصفهاني، أخبرنا أبو الشيخ الحافظ، حدَّثنا أبو يحيى الرازي، حدَّثنا سهل بن عثمان، حدَّثنا علي بن مُسْهِر، عن داود، عن الشعبي، قال:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كنت آتي اليهود عند دراستهم التوراة، فأَعْجَبُ من موافقة القرآن التوراة، وموافقة التوراة القرآن. فقالوا: يا عمر ما أحدٌ أحبَّ إلينا منك، قلت: ولم؟ قالوا: لأنك تأتينا وتغشانا، قلت: إنما أجيء لأعجب من تصديق كتاب الله بعضه بعضاً، وموافقة التوراة القرآن، وموافقة القرآن التوراة. فبينا أنا عندهم ذات يوم إذ مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلف ظهري، فقاللوا: هذا صاحبك فقم إليه. فالتفت إليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد دخل خَوْخَة من المدينة، فأقبلت عليهم فقلت: أنشدكم الله وما أنزل عليكم من كتاب، أتعلمون أنه رسول الله؟ فقال سيدهم: قد نشَدَكم باللهِ فأخبروه. فقالوا: أنت سيدنا فأخْبِرْهُ. فقال سيدهم: إنا نعلم أنه رسول الله، قال: قلت: فأنت أهلكهم إن كنتم تعلمون أنه رسول الله، ثم لم تتبعوه. قالوا: إن لنا عدواً من الملائكة، وسلماً من الملائكة. فقلت: من عدوكم. ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل، وهو ملك الفظاظة والغلظة، والآصار والتشديد. قلت: ومن سلمكم؟ قال: ميكائيل، وهو ملك الرأفة واللين والتيسير. قلت: فإني أشهد ما يحل لجبريل أن يعادي سلم مكائيل، وما يحل لميكائيل أن يسالم عدو جبريل؛ فإنهما جميعاً ومن معهما أعداء لمن عادوا، وسلم لمن سالموا. ثم قمت فدخلت الخَوْخَة التي دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبلني فقال: يا ابن الخطاب، ألا أُقْرِئُكَ آيات أنزلت عليّ قبل؟ قلت: بلى. قال: فقرأ {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ} الآية حتى بلغ: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ ٱلْفَاسِقُونَ}. قلت: والذي بعثك بالحق نبياً ما جئت إلاَّ أخبرك بقول اليهود، فإذا اللطيف الخبير قد سبقني بالخبر. قال عمر: فقد رأيتني أشدَّ في دين الله من حجر.
وقال ابن عباس: إن حَبْراً من أحبار اليهود من "فَدَك" يقال له: عبد الله ابن صُوْرِيا، حاجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن أشياء، فلما اتجهت الحجة عليه قال: أيّ ملك يأتيك من السماء؟ قال: جبريل، ولم يبعث الله نبياً إلاَّ وهو وليّه. قال: ذاك عدونا من الملائكة، ولو كان ميكائيل [مكانه] لآمنا بك؛ إنّ جبريل ينزل بالعذاب والقتال والشدة، وإنه عادانا مراراً كثيرة، وكان أشدُّ ذلك علينا أن الله أنزل على نبينا: أن بيت المقدس سيخرب على يدي رجل يقال له: بُخْتُنَصَّر، وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه، فلما كان وقته بَعَثْنَا رجلاً من أقوياء بني إسرائيل في طلب بخْتُنَصَّر ليقتله، فانطلق يطلبه حتى لقيه ببابل غلاماً مسكيناً ليست له قوة، فأخذه صاحبنا ليقتله، فدفع عنه جبريل، وقال لصاحبنا: إن كان ربكم الذي أذن في هلاككم فلن تسلط عليه، وإن لم يكن هذا فعلى أي شيء تقتله؟ فصدّقه صاحبنا، ورجع إلينا، وكبر بُخْتُنَصَّرُ وقوي، وغزانا وخرب بيت المقدس؛ فلهذا نتخذه عدواً. فأنزل الله هذه الآية.
وقال مقاتل: قالت اليهود: إن جبريل عدونا، أُمِرَ أن يجعل النبوة فينا، فجعلها في غيرنا. فأنزل الله هذه الآية.
{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ ٱلْفَاسِقُونَ }
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}. [99].
قال ابن عباس: هذا جواب لابن صُوريا حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل عليك من آية بينة بها. فأنزل الله هذه الآية.