عادت ابنتي التي تدرس في المرحلة الثانوية من مدرستها وهي تحمل خبراً جميلاً وهو أنه سيضاف إلى المنهج الدراسي مادة جديدة في العام القادم وهي (التربية الأسرية) أو (الحياة الزوجية) ففرحت كثيراً بهذا الأمر ذلك أنني منذ مدة والفكرة تراودني أن أطرحها بتوسع. وقد كتبت عدة مقالات في هذا المجال لكنني وجدت أن الأستاذ عبد الله الجعيثن يكتب مقالات جميلة في جريدة الرياض حول قضايا الحياة الزوجية والمرأة والأسرة وغير ذلك من الموضوعات الاجتماعية. فتأكد لي أهمية هذا الموضوع وبخاصة أن الأستاذ الجعيثن يغوص في التراث العربي الإسلامي ويكتشف كنوزاً من المعرفة تقدم من المعالجات لهذه القضايا تفوق في كثير من الأحيان ما توصل إليه علماء الاجتماع وعلماء النفس في العصر الحاضر.
لماذا التربية الأسرية؟ أو لماذا مادة جديدة باسم الحياة الزوجية؟ إن النفس البشرية عميقة وتحتاج إلى جهود كبرى لفهمها وقد أدرك الغرب أنه تقدم كثيراً في مجال المادة والتقنية وصناعة الآلات والأجهزة ولكنه فشل في إدراك كنه هذه النفس البشرية التي حار الفلاسفة على مر العصور على فهمها وإدراكها. والحياة الزوجية ارتباط بين فردين وأسرتين في أسمى رباط بشري سماه الله عز وجل باسم (الميثاق الغليظ) وورد ذكره في السنة النبوية الشريفة بـ (كلمة الله). ألا يستحق هذا الميثاق الغليظ أن يفرد له منهج دراسي يوضح أبعاده وأهدافه وحقائقه وكيفية المحافظة عليه؟
إن اضطراب الحياة المعاصرة وتشعباتها وتوترها وقلقها أديا إلى كوارث في هذه الحياة أولها انتشار الطلاق، وهدم البيوت، وتشريد الأطفال وتكوين أجيال من الشباب والفتيات الذين لم يعيشوا حياة أسرية مستقرة؛ فتوجه منهم من توجه إلى الجريمة بأنواعها والمخدرات وضياع الوقت. كما أن التأخر في الزواج أدى إلى زيادة عدد الفتيات في بيوت الآباء حتى سن متأخرة مما سبب مشكلات كثيرة منها البحث عن وظيفة للفتاة كما نبحث عن وظيفة للشباب أو البحث عن كرسي في الجامعة للفتيات أسوة بالشباب. وكذلك وجود الفراغ في حياة الفتاة لا تعرف كيف تملؤه.
ومن المبررات للتأكيد على الحياة الأسرية أو الزوجية أن هذه المؤسسة من أكثر المؤسسات الاجتماعية التي تعرضت لحرب شرسة في الغرب حتى إن هذه المؤسسة إن لم تكن قد انهارت فهي في طريقها إلى الانهيار، وقد استبدلوا بها في الغرب ما أسموه الحياة الزوجية بدون زواج أو ما ترجمته إحدى القنوات الفضائية العربية ( الـمُفسِدة) ( المساكنة) وقد خصصت حلقة من حلقات أحد البرامج الجماهيرية لهذا الأمر وكأننا قاب قوسين من وقوع هذا الأمر في بلادنا. وهو لا شك قد انتشر في أوساط المتغربين. كما قدمت صحيفة من الصحف استطلاعاً موسعاً عن زواج الطلاب والطالبات في الجامعات تحت مظلة الزواج المدني. بل إن إحدى الدول العربية قررت أن تجعل الزواج المدني دستورياً رغم معارضة أهل الأديان في ذلك البلد، ولكن لا أدري ما فعل الله بهم هل أُقر القانون أم ما زال مشروعاً؟
ومن المبررات لدراسة الحياة الأسرية ما قرأته قبل مدة عن صورة من الحياة الزوجية السلبية التي كتب عنها الأستاذ عبد الله الجعيثن وهي الحالة التي تتولى فيها المرأة مكانة الرجل في البيت مع وجوده حيث تكون المرأة مسترجلة أو تكون قاهرة حاكمة مستبدة طاغية. لاشك أن مثل هذا الوضع ناتج عن تخلي الرجل عن دوره في قيادة الأسرة. وهي بلا شك حالة شاذة لكنها موجودة. ولعل من أسبابها تأكيد نموذج من التربية على أن تغلب المرأة الرجل أو تسيطر عليه أو تجعله كخاتم في إصبعها. أو هي نتيجة للمثل الشعبي الذي يقول من (من يذبح البس ليلة العرس). ولا شك أن مثل هذا الوضع يحتاج إلى علاج سريع من خلال محاضرات تلقى في محافل النساء أو دورات تدريبية قبل الزواج أو بعده. وإن الرجل قد يحاول استعادة مكانته في الأسرة فلا يكون الحل سوى الطلاق وما يتبعه من نتائج في تشريد الأطفال وهدم البيوت.
لقد أظهر الأستاذ الجعيثن سعة اطلاعه على قضايا الحياة الزوجية ففي مقالته المعنونة (علاج الملل من الحياة الزوجية)(الرياض 20ذوالقعدة 1419) ذكر أن الملل في الحياة الزوجية أو منها أو من شريك الحياة " شيء مؤلم ومحبط ومُغْشي بالكآبة …إن لم نقل إنه هو السائد، من أندر النادر ألاّ يمر زوجان بحالة من الملل السام.. ومن شبه المستحيل أن تمضي الحياة الزوجية في توهجها وتجددها وأشواقها وبهجتها..
وقّدم الجعيثن بعض الحلول التي من الممكن أن تقضي على الملل ومن ذلك مثلاً (الحرمان) حيث يقول فيه:" السعادة في حاجة لبعض الحرمان والإحساس بالتجدد في حاجة لبعض الحرمان .. ولذلك فإن الرجل يجب أن يكون له بعض النشاط خارج المنزل بحيث يتحقق بعض الشوق لعودته إلى البيت أو أن يسافر أو أن تأخذ الزوجة إجازة لزيارة أهلها مثلاً بعض الوقت.
فمن الحلول التي يراها الأستاذ الجعيثن مناسبة لمحاربة الملل والسأم ما أسماه (المخدع المنفصل) وقد تحدث عنه في كتابه (قالوا في المرأة) واستشهد بدعوة ابن الجوزي إلى اعتماد المخدع المنفصل بين الرجل والمرأة. وقد سبق ابن الجوزي علماء النفس وعلماء الاجتماع بمئات السنين. ومن الحلول أيضاً الخلوة بالنفس حيث يكون للرجل والمرأة أوقاتاً يختلي الواحد منهما بنفسه لبعض الوقت، ويضيف في هذا الأمر أن الغربيين أكثر احتراماً منّا للخلوة بالنفس دون إزعاج أو تدخل من أعز الناس. وأذكر في هذا المجال مقالة للشيخ محمد العزالي رحمه الله يدعو فيها المرأة أن تساعد زوجها على أن يكون له نشاط في خدمة مجتمعه خارج المنـزل، فإن الرجل يجب أن لا ينكفئ على نفسه وتستأثر به زوجته وأولاده ولذلك جاء في الأثر ( الزوجة والأولاد مجبنة مجهلة مكسلة مبخلة ..).
ومن الحلول أيضاً (الاهتمام لا الإهمال) ويختم بالحديث عن (تجديد الحياة) ويصف بعض النماذج من صور تجديد الحياة. ومن ذلك قوله " الحياة حركة ..ومن لا يتحرك يموت والماء الراكد يأسن وجراثيم الملل ليس أشهى عندها من بيت جامد …خامد … خامل لا تغيير فيه ولا تجديد…يومه كأمسه وغده كيومه…"
المهم أن ما أود الخلوص إليه هو أن الاهتمام بالحياة الزوجية أو الحياة الأسرية أمر مهم جداً بحيث تستحق أن يفرد لها منهج دراسي لتناول جوانبها المختلفة. ومن هذه الجوانب مثلاً علاقة الرجل بأهله أو بأمه بصفة خاصة بعد الزواج فإن الزوجات في كثير من الأحيان لا يقدرن ضرورة استمرار صلة الرجل بأمه وضرورة حرصه على رضاها. ولا أدري لماذا تنسى كثير من النساء أن بعض الرجال نتيجة حب الزوجة أو الخضوع لها يصلون إلى درجة الوقوع في حالة العقوق، وهي مسألة خطيرة لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد حذر من خضوع الرجل لزوجه وإغضاب أمه.
ولتتذكر المرأة أنها سيتقدم بها قطار العمر وتحتاج إلى أن ترى أبناءها قريباً منها يبرونها ويحسنون صحبتها، وما أعظم فضل الأم الذي جعل المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم يؤكد على أن يكون البر للأم ثلاث مرات ثم المرة الرابعة للأب، وأن الإنسان مهما فعل ليكافئ أمه فإنه لن يستطيع حتى جاء إن الرجل لو حج بأمه على ظهره فسعى بها وطاف فإن ذلك لا يعادل زفرة من زفرات النفاس. فما باله لو أضاف إلى هذه الآلام الأيام الطوال التي قضتها في السهر على راحة الابن وصحته.
فهل يتحقق في القريب العاجل بإذن الله إضافة هذه المادة حفاظاً على مؤسسة الأسرة في بلادنا وحماية لها من الهجوم المنظم عليها؟