{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ...} الآية، [189].
قال معاذ بن جبل: يا رسول الله، إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال قتادة: ذُكر لنا أنهم سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم: لم خلقت هذه الأهلة؟ فأنزل الله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ}.
وقال الكلبي: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن عنمة وهما رجلان من الأنصار، قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو فيطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينتقص ويدق حتى يكون كما كان: لا يكون على حال واحدة؟ فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: {وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا}، [189].
أخبرنا محمد بن إبراهيم المُزكي، أخبرنا أبو عمرو بن مطر، أخبرنا أبو خليفة، حدَّثنا أبو الوليد والحوضي قالا: حدَّثنا شعبة قال: أنبأنا أبو إسحاق، قال سمعت البراء [بن عازب] يقول:
كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها، فجاء رجل فدخل من قِبَلِ باب، فكأنما عير بذلك، فنزلت هذه الآية.
رواه البخاري عن أبي الوليد.
ورواه مسلم عن بُنْدَار، عن غُنْدَر عن شعبة.
أخبرنا أبو بكر التميمي، حدَّثنا أبو الشيخ، حدَّثنا أبو يحيى الرازي، حدَّثنا سهل بن عُبيد، حدَّثنا عبيدة، عن الأعمش، عن أبي سفيان؛ عن جابر قال: كانت قريش تدعى الحُمُس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام؛ فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بستان إذ خرج من بابه، وخرج معه قُطْبَةُ بن عامر الأنصاري، فقالوا يا رسول الله: إن قطبة بن عامر رجل فاجر، وإنه خرج معك من الباب. فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت، فقال: إني أَحْمِسيّ، قال: فإن ديني دينُك، فأنزل الله {وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا}.
وقال المفسرون: كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة، لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه، فإن كان من أهل المدن نَقَب نَقْباً في ظهر بيته منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلماً فيصعد فيه، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط، ولا يدخل من الباب حتى يحل من إحرامه، ويرون ذلك ديناً إلا أن يكون من الحمس وهم قريش، وكِنَانَة، وخُزَاعةَ وثَقِيف، وخَثْعَم، وبنو عامر بن صَعْصَعَة، وبنو النَّضرْ بن معاوية؛ سموا حمساً لشدتهم في دينهم قالوا: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم بيتاً لبعض الأنصار، فدخل رجل من الأنصار على أثره من الباب وهو محرم، فأنكروا عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم دخلت من الباب وأنت محرم؟ فقال: رأيتك دخلت من الباب فدخلت على أثرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أحمسي، قال الرجل: إن كنت أحْمسياً فإني أحمسي، ديننا واحد، رضيت بهديك وسمتك ودينك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ }
قول تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} الآية. [190].
قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس:
نزلت هذه الآيات في صلح الحُدَيْبِيَةِ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لَمَّا صُدَّ عن البيت هو وأصحابه نحر الهَدْيَ بالحديبية، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه ثم يأتي القابل على أن يُخْلُوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء وصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحَرَم، فأنزل الله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} يعني قريشاً.
{ ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ }
قوله تعالى: {ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ} الآية، [194].
قال قتادة: اقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في ذي القعدة حتى إذا كانوا بالحديبية صدَّهم المشركون، فلما كان العام المقبل دخلوا مكة فاعتمروا في ذي القعدة، وأقاموا بها ثلاث ليال، وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردوه يوم الحديبية فَأَقَصَّه الله منهم، فأنزل: {ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ} الآية.
{ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }
قوله تعالى: {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ} الآية. [195].
أخبرنا سعيد بن محمد الزاهد، أخبرنا أبو علي بن أبي بكر الفقيه، أخبرنا أحمد بن الحسين بن الجنيد، حدَّثنا عبد الله بن أيوب، حدَّثنا هشيم، عن داود، عن الشعبي قال:
نزلت في الأنصار أمسكوا عن النفقه في سبيل الله تعالى فنزلت هذه الآية.
وبهذا الإِسناد عن هشيم، حدَّثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عِكْرمة قال: نزلت في النفقات في سبيل الله.
أخبرنا أبو بكر المهْرَجَاني، أخبرنا أبو عبد الله بن بَطَّة، أخبرنا أبو القاسم البَغوِيّ، حدَّثنا هُدْبة بن خالد، حدَّثنا حماد بن سلمة، عن داود، عن الشعبي، عن الضحاك بن أبي جبيرة، قال:
كانت الأنصار يتصدقون ويطعمون ما يشاء الله، فأصابتهم سنة فأمسكوا، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
أخبرنا أبو منصور البغدادي، أخبرنا أبو الحسن السرّاج، حدَّثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدَّثنا هُدبة، حدَّثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير في قول الله عزّ وجلّ: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ} قال: كان الرجل يذنب الذنب فيقول لا يغفر لي، فأنزل الله هذه الآية.
أخبرنا أبو القاسم بن عبدان حدَّثنا محمد بن حمدوية، حدَّثنا محمد بن صالح بن هانئ قال حدَّثنا أحمد بن محمد بن أنس القرشي، حدَّثنا عبد الله بن يزيد المقري، أخبرنا حيوة بن شريح، أخبرني يزيد بن أبي حبيب، أخبرني أسلم أبو عمران، قال:
كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عُقْبَةُ بن عامر الجُهَنيِّ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج من المدينة صف عظيم من الروم، وصففنا لهم صفَّاً عظيماً من المسلمين، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، ثم خرج إلينا مقبلاً، فصاح الناس فقالوا: سبحان الله ألقى بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية على غير التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لمّا أعزّ الله تعالى دينه وكثَّر ناصريه، قلنا بعضنا لبعض سراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنَّا أقمنا فيها وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى في كتابه يرد علينا ما هممنا به فقال: {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ} في الإقامة التي أردنا أن نقيم في الأموال فنصلحها فأمرنا بالغزو. فما زال أبو أيوب الأنصاري غازياً في سبيل الله حتى قبضه الله عزّ وجلّ.
{ وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }
قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} [196].
أخبرنا الأستاذ أبو طاهر الزيادي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن الحسن المحمد أباذي حدَّثنا العباس الدوري، حدَّثنا عبيد الله بن موسى، حدَّثنا إسرائيل، عن عبد الرحمن الأصفهاني، عن عبد الله بن معقل، عن كعب بن عُجْرَةَ، قال:
فيّ نزلت هذه الآية: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} وقع القمل في رأسي فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: احلق وافده صيام ثلاثة أيام، أو النسك، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين صاع.
أخبرنا محمد بن إبراهيم المزكي، حدَّثنا أبو عمرو بن مطر، إملاء، أخبرنا أبو خليفة، حدَّثنا مسدد، عن بشر، حدَّثنا ابن عون، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:
قال كعب بن عجرة: فيّ أنزلت هذه الآية، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ادنه، فدنوت مرتين أو ثلاثاً، فقال: أيؤذيك هَوَامُّك؟ قال ابن عون وأحسبه قال: نعم، فأمرني بصيام أو صدقة أو نسك ما تيسر، رواه مسلم عن أبي موسى، عن ابن عدي، [ورواه البخاري عن أحمد بن يونس عن ابن شهاب]، كلاهما عن ابن عون.
أخبرنا أبو نصر أحمد بن عبد الله المخلدي، أخبرنا أبو الحسن السراج، أخبرنا محمد بن يحيى بن سليمان المروزي، حدَّثنا عاصم بن علي، حدَّثنا شعبة، أخبرني عبد الرحمن [بن] الأصفهاني، سمعت عبد الله بن معقل قال:
قعدت إلى كعب بن عُجْرَة في هذا المسجد - مسجد الكوفة - فسألته عن هذه الآية: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال: حُملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك هذا، ما تجد شاة؟ قلت: لا فنزلت هذه الآية: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}. قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، فنزلت فيّ خاصة ولكم عامة. رواه البخاري عن آدم بن أبي إِياس وأبي الوليد ورواه مسلم بن بندار عن غندر، كلهم عن شعبة.
أخبرنا أبو إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم الصوفي، أخبرنا محمد بن علي الغفاري، أخبرنا إسحاق بن محمد [الرسعني]، حدَّثنا جدي، حدَّثنا المغيرة الصقلاني، حدَّثنا عمر بن بشر المكي، عن عطاء، عن ابن عباس قال:
لما نزلت الحديبية جاء كعب بن عجرة ينتثر هَوَامُّ رأسه على جبهته، فقال: يا رسول الله، هذا القمل قد أكلني قال: احلق وافده. قال: فحلق كعب فنحر بقرة، فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك الموقف: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} الآية.
قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصيام ثلاثة أيام، والنسك شاة، والصدقة الفَرْقُ بين ستة مساكين، لكل مسكين مدان.
أخبرنا محمد بن محمد المنصوري، أخبرنا علي بن عمر الحافظ، أخبرنا عبد الله بن المهتدي، حدَّثنا طاهر بن عيسى بن إسحاق التميمي، حدَّثنا زهير بن عباد، حدَّثنا مصعب بن ماهان، عن سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة قال:
مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوقد تحت قدر له بالحديبية فقال: أيؤذيك هَوَامُّ رأسك؟ قال: نعم، قال: احلق. فأنزل الله هذه الآية: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}. قال: فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة فرق بين ستة مساكين، والنسك شاة.
[أخبرنا عبد الله بن عباس الهروي فيما كتب إليَّ: أن العباس بن الفضل بن زكريا حدثهم عن أحمد بن نجدة، حدَّثنا سعيد بن منصور، حدَّثنا أبو عوانة، عن عبد الرحمن بن الأصفهاني، عن عبد الله بن معقل قال:
كنا جلوساً في المسجد، فجلس إلينا كعب بن عجرة فقال: فيّ أنزلت هذه الآية: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} قال: قلت: كيف كان شأنك؟ قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، محرمين، فوقع القمل في رأسي ولحيتي وشاربي حتى وقع في حاجبي، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك هذا، ادعوا الحالق، فجاء الحالق فحلق رأسي، فقال: هل تجد نَسِيكَة؟ قلت: لا، وهي شاة، قال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم ثلاثة آصُع بين ستة مساكين. قال فأنزلت فيّ خاصة، وهي للناس عامة].
{ ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }
قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ} الآية. [197].
أخبرنا عمرو بن عمرو المُزَكِّي، أخبرنا محمد بن المكي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدَّثنا يحيى بن بشير، حدَّثنا شبابة، عن ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:
كان أهل اليمن يحجون ولا يتزدون، يقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله عز وجل: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ}.
وقال عطاء بن أبي رباح: كان الرجل يخرج فيحمل كَلَّهُ على غيره، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ}.
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ }
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} الآية [198].
أخبرنا منصور بن عبد الوهاب البزار، أخبرنا أبو عمرو محمد بن أحمد الحيري، عن شعيب بن [علي] الزَّرّاع، حدَّثنا عيسى بن مساور، حدَّثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدَّثنا العلاء بن المسيب، عن أبي أمامة التيمي قال:
سألت ابن عمر فقلت: إِنا قوم نُكْرى في هذا الوجه، وإن قوماً يزعمون أنه لا حج لنا. قال: ألستم تلبون؛ ألستم تطوفون [ألستم تسعون] بين الصفا والمروة؟ ألستم ألستم؟ قال [قلت]: بلى، قال: إِن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما سألت عنه فلم [يدر ما] يرد عليه حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} فدعاه فتلا عليه حين نزلت، فقلت: أنتم الحجاج.
أخبرنا أبو بكر التميمي، حدَّثنا عبد الله بن محمد بن خشنام، حدَّثنا أبو يحيى الرازي، حدَّثنا سهل بن عثمان، حدَّثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال:
كان ذو المجاز وعكاظ متجراً للناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} في مواسم الحج.
وروى مجاهد عن ابن عباس قال:
كانوا يتقون البيوع والتجارة في الحج يقولون: أيام ذكر الله عز وجل: فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} فاتجروا.
{ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ} الآية [199].
أخبرنا التميمي بالإسناد [المتقدم] الذي ذكرنا، عن يحيى بن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة قالت:
كانت العرب تفيض من عرفات، وقريش ومن دان بدينها تفيض من جَمْع من المشعر الحرام، فأنزل الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ}.
أخبرنا محمد بن أحمد بن جعفر المزكي، أخبرنا محمد بن عبد الله بن زكريا، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن السَّرْخَسِي، حدَّثنا أبو بكر بن أبي خَيْثَمةَ، حدَّثنا حامد بن يحيى، حدَّثنا سفيان بن عيينة، أخبرني عمرو بن دينار، أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال:
أضللتُ بعيراً لي يوم عرفة: فخرجت أطلبه بعرفة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقفاً مع الناس بعرفة، فقلت: هذا من الحمس ماله ها هنا.
قال سفيان: والأحْمس: الشديد الشحيح على دينه.
وكانت قريش تسمى الحُمْسَ فجاءهم الشيطان فاستهواهم، فقال لهم: إنكم إن عظمتم غير حَرَمِكُم استخف الناسُ بحرمكم، فكانوا لا يخرجون من الحرم، ويقفون بالمزدلفة، فلما جاء الإسلام أنزل الله عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ}. يعني عرفة. رواه مسلم عن عمرو الناقد، عن ابن عيينة.
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }
قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} الآية. [200].
قال مجاهد: كان أهل الجاهلية إذا اجتمعوا بالموسم ذكروا فعل آبائهم في الجاهلية، وأيامهم وأنسابهم فتفاخروا، فأنزل الله تعالى: {فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}.
وقال الحسن: كانت الأعراب إذا حدثوا أو تكلموا يقولون: وأبيك إنهم لفعلوا كذا وكذا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ }
قوله تعالى: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا} الآية. [204].
قال السدي: نزلت في الأَخَنْس بن شريق الثقفي، وهو حليف بني زهرة أقبل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة فأظهر له الإسلام وأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وقال إنما جئت أريد الإسلام، والله يعلم إني لصادق، وذلك قوله: {وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ} ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرّ بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع وعَقَرَ لحمر، فأنزل الله تعالى فيه: {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ}.
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ }
قوله تعالى: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ} الآية. [207].
قال سعيد بن المسيب: أقبل ضُهَيْب مهاجراً نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتبعه نفر من قريش من المشركين، فنزل عن راحلته ونثر ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أَرْمَاكم رجلاً، وأيم الله لا تَصِلُون إليَّ حتى أرمي بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، فقالوا: دلنا على بيتك ومالك بمكة ونخلّي عنك، وعَاهَدُوه إنْ دلهم أن يَدَعُوه، ففعل. فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبا يحيى ربح البيع، ربح البيع، وأنزل الله: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ}.
وقال المفسرون: أخذ المشركون صهيباً فَعذبوه، فقال لهم صهيب إني شيخ كبير لا يضركم أَمِنْكُمْ كنت أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتَذَرُوني وديني؟ ففعلوا ذلك، وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة، فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال، فقال له أبو بكر: ربح بيعك أبا يحيى، فقال صهيب: وبيعك فلا يَخسر ما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا، وقرأ عليه هذه الآية.
وقال الحسن: أتدرون فيمن نزلت هذه الآية في أن المسلم يلقى الكافر فيقول له: قل لا إله إلاّ الله، فإذا قلتها عصمت مالك ودماك، فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله لأشرين نفسي لله، فتقدم فقاتل حتى قتل.
وقيل: نزلت فيمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر.
قال أبو الخليل: سمع عمر بن الخطاب إنساناً يقرأ هذه الآية فقال عمر: إنا لله قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }
قوله عز وجل: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً}. [208].
[أخبرني أبو نعيم الأصفهاني فيما أذن في روايته عنه: أخبرنا سليمان بن أحمد، حدَّثنا بكر بن سهل، حدَّثنا عبد الغني بن سعيد، عن موسى بن عبد الرحمن الصنعاتي عن ابن جريج عن عطاء] عن ابن عباس [قال]:
نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قاموا بشرائعه وشرائع موسى، فعظموا السبت، وكرهوا لُحْمانَ الإبل وألبانها بعد ما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون فقالوا: إنا نَقْوَى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنعمل بها فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } الآية. [214].
قال قتادة والسُّدِّي: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة والحر [والخوف] والبرد وضيق العيش وأنواع الأذى، وكان كما قال الله تعالى: {وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ}.
وقال عطاء: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه المدينة اشتد الضر عليهم لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأَسَرَّ قومٌ من الأغنياء النفاق، فأنزل الله تعالى تطييباً لقلوبهم {أَمْ حَسِبْتُمْ} الآية.
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }
قوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} الآية. [215].
قال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت في عَمْرو بن الجموح الأنصاري، وكان شيخاً كبيراً ذا مال كثير فقال: يا رسول الله، بماذا نتصدق؟ وعلى من ننفق؟ فنزلت هذه الآية.
وقال في رواية عطاء: نزلت [هذه] الآية في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي ديناراً، فقال: أنفقه على نفسك، فقال: إن لي دينارين، فقال: انفقهما على أهلك، فقال: إن لي ثلاثة، فقال: أنفقها على خادمك، فقال: إن لي أربعة، فقال: أنفقها على والديك، فقال: إن لي خمسة، فقال: أنفقها على قرابتك، فقال: إن لي ستة، فقال: أنفقها في سبيل الله، وهو أحسنها.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلۤـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلۤـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ} الآية. [217].
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الشيرازي، حدَّثنا أبو الفضل محمد بن عبد الله بن خِمَيْرُوَيْةِ الهروي، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الخزاعي، حدَّثنا أبو اليمان: الحكم بن نافع، أخبرني شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال:
أخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث سرّية من المسلمين وأمرَ عليهم عبد الله بن جَحْش الأسدي، فانطلقوا حتى هبطوا نَخْلَة فوجدوا بها عمرو بن الحضرمي في عير تجارة لقريش، في يوم يقي من الشهر الحرام؛ فاختصم المسلمون فقال قائل منهم: لا نعلم هذا اليوم إلاَّ من الشهر الحرام، ولا نرى أن تستحلوه لطمع أَشْفَيْتُم عليه. فغلب عَلَى الأمْر الذين يريدون عرض الدنيا، فشدوا على ابن الحضرمي فقتلوه وغنموا عيره، فبلغ ذلك كفار قريش، وكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين وبين المشركين، فركب وفد من كفار قريش حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أَتُحِلُّ القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} إلى آخر الآية.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد الحارثي. أخبرني عبد الله بن محمد بن جعفر، حدَّثنا عبد الرحمن بن محمد الرازيّ، حدَّثنا سهل بن عثمان، حدَّثنا يحيى بن أبي زائدة عن محمد بن إسحاق، عن الزّهري قال.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن جحش ومعه نفر من المهاجرين، فقتل عبد الله بن وَاقِد الليثيُّ عمرو بن الحضرمي، في آخر يوم من رجب وأسروا رجلين، واستاقوا العير، فوقف على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لم آمركم بالقتال في الشهر الحرام. فقالت قريش: استحل محمد الشهر الحرام، فنزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ} إلى قوله: {وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ} أي قد كانوا يفتنونكم وأنتم في حرم الله بعد إيمانكم، وهذا أكبر عند الله من أن تقتلوهم في الشهر الحرام مع كفرهم بالله.
قال الزهري: لما نزل هذا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير وفَادَى الأسيرين. ولما فرّج الله تعالى عن أهل تلك السرية ما كانوا فيه من غم، طمعوا فيما عند الله من ثوابه، فقالوا: يا نبي الله أنطمع أن تكون غزوة ولا نعطى فيها أجر المجاهدين في سبيل الله، فأنزل الله تعالى فيها: {إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ} الآية.
قال المفسرون: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن جحش، وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، في جمادى الآخرة، قبل قتال بدر بشهرين، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه المدينة، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين: سعد بن أبي وقّاص الزهري، وعُكَّاشَة بن محْصَن الأسدي، وعُتْبة بن غَزْوان السلمي، وأبا حُذَيْفَة بن عتبة بن ربيعة، وسُهَيْل بن بيضاء، وعامر بن ربيعة، ووَاقِد بن عبد الله، وخالد بن بُكَيْر؛ وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وقال: سر على اسم الله، ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين، فإذا نزلت منزلين فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك، ثم امض لما أمرتك، ولا تستكرهن أحداً من أصحابك على المسير معك، فسار عبد الله يومين، ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل بطن نَخْلَةَ، فترصَّد بها عير قريش لعلّك أن تأتينا منه بخبر" فلما نظر عبد الله في الكتاب قال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه ذلك وقال: إنه قد نهاني أن أستكره أحداً منكم، حتى إذا كان بمَعْدِن فوق الفُرُع، وقد أضل سعد بن ابي وقّاص وعُتْبة بن غَزْوان بعيراً لهما كانا يَعْتَقِبَانِه، فأستأذنا أن يتخلفا في طلب بعيرهما، فأذن لهما، فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله ببقية أصحابه حتى وصلوا بَطْنَ نَخْلة بين مكة والطائف، فبيناهم كذلك إذ مرت بهم عير لقريش تحمل زبيباً وأَدَماً وتجارة من تجارة الطائف، فيهم عمرو بن الحَضْرَمِيّ، والحكم بن كَيْسَان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، ونَوْفل بن عبد الله، المَخْزُومِيَّان. فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هابوهم، فقال عبد الله بن جحش: إن القوم قد ذعروا منكم، فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم، فإذا رأوه محلوقاً أمنوا وقالوا: قوم عُمَّار، فحلقوا رأس عُكَّاشَة، ثم أشرف عليهم فقالوا: قوم عُمَّار لا بأس عليكم. فأمنوهم، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة، وكانوا يرون أنه من جمادى أو هو رجب، فتشاور القوم فيهم وقالوا: لئن تركتموهم هذه الليلة ليَدخلُن الحَرمَ فليمتنعن منكم، فاجمعوا أمرهم في مُوَاقَعَة القوم، فرمى وَاقِد بن عبد الله التَّمِيمِي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، فكان أول قتيل من المشركين، واستأسر الحكم وعثمان، فكانا أول أسيرين في الإسلام. وأفلت نوفل وأعجزهم. واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالمدينة فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام، شهراً يأمن فيه الخائف ويَيْذَعِرُّ الناس لمعاشهم، فسفكَ فيه الدماء وأخذ فيه الحَرَائب، وعير بذلك أهلُ مكة من كان بها من المسلمين فقالوا: يا معشر الصُّبَاة، استحللتم الشهر الحرام فقاتلتم فيه. وتفاءلت اليهود بذلك وقالوا وَاقِد: وقَدَت الحرب وعمْرو: عَمَرَت الحرب والحَضْرَمي: حَضَرَت الحرب، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لابن جحش واصحابه: ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام، ووَقَّفَ العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فعظم ذلك على أصحاب السرية، وظنوا أن قد هلكوا، وسُقِطَ في أيديهم، وقالوا: يا رسول الله، إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب، فلا ندري أفي رجب أصبناه أو في جمادى؟ وأكثر الناس في ذلك، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ} الآية. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير فعزل منها الخمس، فكان أول خمس في الإسلام، وقسم الباقي بين اصحاب السَّرِيَّة فكان أول غنيمة في الإسلام. وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم فقال: بل نَقِفُهما حتى يقدم سعد وعتبة، فإن لم يقدما قتلناهما بهما. فلما قدما فاداهما.
وأما الحكم بن كَيْسَان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيداً.
وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافراً.
وأما نَوْفَل فَضَرَب بطنَ فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعاً. فقتله الله تعالى وطلب المشركون جيفته بالثمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوه فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية.
فهذا سبب نزول قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ} والآية التي بعدها.